الخميس، 17 يوليو 2008

ذكريات وجدانية من حرب ال67 في قرية رفيديا

ذكريات وجدانية من حرب ال67 في قرية رفيديا

لن اتعب عقل القارئ ولا أريد أن أتناول هذه المأساة بالتحليل السياسي لان الكثير غيري وممن هم اقدر مني على التحليل قد فعلوا ذلك، ومن المؤكد أن غيرهم سيفعل. إذ تعود هذه الذكرى من جديد لتعتصرنا وترسم الحزن في قلوبنا، وتذكرني بطفولة فقدتها في عيون الكبار آنذاك حين شاهدت الدموع وصرخات القلب المكبوتة تخرج من نفوس الرجال والنساء معا، والذي عرفته فيما بعد بقهر الرجال وشاهدنا الكثير من مآسي هذه الأمة وهي تطبق الخناق على قلوبنا وعقولنا.
ولكن من اشد اللقطات التي حفرت اخاديدا عميقة في الذاكرة، هي منظر لجارتنا " سهيلة " وهي تعلمنا كيفية أن نضع قطعة القماش المبلولة على أنوفنا للتنفس تلبية لنداءات الدفاع المدني آنذاك وظنا منها أن الطائرات الإسرائيلية قد تلقي بعض المواد الكيماوية، وبدأت تلقي علينا دروسا في الدفاع المدني ولم افهم الكثير مما قالته، وقد ابلغونا بضرورة أن نتواجد في الطابق الأرضي من البيت ولا أريد أن يظن من يقرأ بأننا كنا نعيش في بيت ذو طوابق متعددة ولكنه كان بيتا قديما يتألف من العلية ومن ثم بيت العقد وفي الطابق الأرضي منه بيت عقد قديم أيضا كان مرتعا لكافة القوارض وكان لا بد من إعادة ترتيبه ليستقبل عدة عائلات أثناء الحرب التي لم تدم طويلا.
وببراءة الأطفال كنا ندرك أن هناك ما هو اكبر من لعبة " السلوك "التي كنت أفاخر بها وأقودها في حوش البيت وقد يجهل أبناء الجيل الجديد هذه اللعبة ومن لا يعرفها ليسأل والده فقد يجيبه، لأني كنت ارقب بين الفترة والأخرى الملامح الجادة للكبار والتصاق آذانهم براديو الترانزستر ذو الحجم الصغير الذي يعمل على البطارية وهم يستمعون لصوت العرب ويقفزون فرحا أحيانا متخلين عن وقار الكبار فيهم وتنظر إليهم مرة أخرى كأن الطير قد حط رؤوسهم. وكنت انظر في وجه والدتي والحظ الدمع مترقرقا في عينيها تحاول أن تكبتها ولم استطع بطفولتي أن اقرأ سبب هذه الدموع هل هي بسبب وجود والدي رحمه الله في الخليج آنذاك، أم كان ذلك بسبب ذهاب أخي الكبير مع الدفاع المدني، استعدادا للطوارئ وحفر الخنادق، أم أن ذلك كان مرده القلق علينا جميعا وربما ببساطتها كانت قلقة على مصير الوطن الذي تأرجح بين الضعف العربي وبين صوت احمد سعيد وهو يقول إن طائرات العدو تتساقط كالذباب وبين الخوف من الهجرة الجديدة.
وكانت آذاننا تسمع بين الفينة والأخرى أصوات قصف متقطع وكنا نتكور معها في زوايا البيت، كنت اسمع الكبار وهم يتحدثون عن معركة تدور في وادي التفاح الذي يقع باتجاه الشمال الغربي من نابلس على الطريق المؤدية لمدينة طولكرم، وتحدثوا فيما بعد عن معارك بطولية قام بها البعض هناك وبالطبع شاهدنا فيما بعد آثار الدبابات المحترقة والقذائف التي كانت مملوءة بقطع من القماش لنسمع فيما بعد عن قصة السلاح الفاسد، وبدأت خيالاتنا الصغيرة ترسم قصصا هي اقرب للخيال منها للواقع عن أولئك الجنود الشجعان الذين خاضوا معركة وادي التفاح وتلك المرأة الشجاعة عفيفة أبو السعود والتي لا أرى ضررا في ذكر اسمها التي حملت الشهداء على كتفها وقامت بدفنهم في ارض في وادي التفاح. ومع اقتراب أصوات المدافع كنت أدرك أهمية أن نتقوقع في الزاوية وقريبا من والدتي كأني بذلك أود أن أحس بالأمان الذي قد يوفرها حضنها. وكان اشد ما كان يلفت انتباهي هي نفس الفتاة التي كانت تشرح للجميع تعليمات الدفاع المدني والتي كانت تكبرنا بكثير بل كانت اكبر من أخي الكبير الذي كان يبلغ من العمر17 عاما آنذاك ولم تكن متزوجة، لا زلت اذكر كيف التصق المذياع بأذنها، وصورتها وهي تقفز فرحا كأنها تريد معانقة السماء عندما تسمع الإذاعات العربية محتفية بالنصر الموهوم، كنت أراها تكاد تطير فرحا وهي تطلق صيحات هي اقرب للهيستيريا تعبيرا عن فرحها بمجريات المعركة ولكن أنشودة فرحها لم تدم طويلا حين سمعنا صوتا بمكبرات الصوت وهو يطالبنا برفع الأعلام البيضاء علامة منا على الاستسلام وعدم المقاومة فما كان من سهيلة إلا أن قامت برمي الراديو في الأرض، وأجهشت في بكاء مرير حمل معه كل معاني الهزيمة، ولا زلت اذكر صوت أبو عبد الله الذي كان عاجز البصر ولم يكن عاجز البصيرة وهو ينادي ابنته ماري بان تبحث عن شيء ابيض تعلقه وكذلك نحن. وأم الياس تصيح على أختها مرثا بان لا تذهب للحاكورة التي اعتادت أن تذهب إليها كل يوم دون أن تدرك فداحة المصيبة التي ألمت بالوطن، وكأن الوطن قد تجسد بتلك الحاكورة التي تعج بشجر التين والقراصيا. وفجأة جاء من يهدم هذا الوجوم القاتل وسمعنا الطائرات وهي تطلق زخات من الرصاص وسمعنا بعد ذلك أصوات النساء وهي تصيح، خرجت من البيت راكضا للحارة ومعي بعض الصغار من عمري ركضنا باتجاه الشارع الرئيسي للقرية وكان الصراخ قادما من بيت أقارب لي، لنعلم بعد ذلك أن الشاب عثمان أبو السعود قد استشهد برصاص تلك الغربان عندما ضربت بين أشجار الزيتون، حيث كان الشباب يعدون الخنادق هناك ظنا منهم ان المعركة ستطول. ولكن اشد ما أثار استغراب الناس في رفيديا في ذلك اليوم هو قدوم الجيش الإسرائيلي من الشرق وظنوه الجيش العراقي وقام البعض بإطلاق الرصاص تحية لقدومه.
ولم تنتهي المأساة عند هذا الحد اذ لم تمض فترة طويلة قبل ان نرى جموع المهجرين من قراهم ومدنهم وهم يضعون بعض ما استطاعوا حمله من متاعهم في منطقة البيادر بالقرب من عين المياه المسماة "عين عويضة"وهم الذين تركوا منازلهم في قلقيلية وحبلة والقرى المحيطة، وكانت تلك المناظر من الاستحالة بمكان نزعها من الذاكرة، ونحن نرى من هم في أعمارنا يبكون ويصرخون وتسمع أنات الكبار وزفراتهم، ورأى عقلي الصغير بعض المشاهد الرائعة لأخلاق شعبنا التي فقدنا جزءا منها الآن، رأيت الناس رغم ضيق حالها وهي تسرع ومعها بعض الطعام والملبس والمشرب توفره للجموع التي لم تنقطع وهي تضع سقط متاعها بين أشجار الزيتون والسرو، والبعض الآخر ممن توفرت عنده غرفة أخرى سعى لإحضار إحدى العائلات وانزلها في تلك الغرفة. ولأول مرة شاهدت النساء وهي تخبز على الصاج.
ومشهد آخر لا استطيع نسيانه هو عندما طلب احد أبناء عم والدي من والدتي أن تحضر بعض ملابسنا بانتظار أن نذهب لعمان هربا مما قد يفعله اليهود على غرار ما جرى بدير ياسين وغيرها، ولكن إصرار والدتي على عدم الذهاب آنذاك دون أن تستشير والدي قد أحبط مشروع اللجوء لكافة أفراد العائلة وبقي الجميع في قرية رفيديا ولم يغادروها.
في النهاية نقول تعود علينا الذكرى وتحمل إلينا ملامح قد تكون أسوأ مما شاهدناه في تلك الأيام، اذ تعود الذكرى لاحتلال باقي أجزاء فلسطين وهي تحمل معها مشاهد في غاية البشاعة وهي تظهر لنا قبح البعض منا وهو يحمل بندقيته يسددها على صدر أخيه تحت مبررات شتى وهي قطعا لا تقنع حتى الطفل فينا، رأينا الأطفال وهي تقتل تحت أي المبررات لا ادري. ورأينا الجامعات تقصف ورأينا البيوت تقتحم ورأينا الفلسطيني يعتقل الفلسطيني ويقتله برصاصة بالرأس ، والمشاهد كثيرة وهي عصية على العقل ان يستوعبها لان اليد التي تقتل وتعتقل وتختطف وتقيم الحواجز هي يد فلسطينية......وآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآخ يا وطن.

صادق أبو السعود
رفيديا – نابلس

ليست هناك تعليقات: